فصل: سئل:عن المداومة على شرب الخمر وترك الصلاة وما حكمه في الإصرار على ذلك؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله تعالى‏:‏ هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، كالصرماء والقمز، والمزر‏؟‏ أو لا يحرم إلا القدح الأخير‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، قد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال‏:‏ قلت يارسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن‏:‏ البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد‏.‏ والمزر وهو من الذرة ينبذ حتى يشتد، قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم، فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وعن عائشة قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلاً من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له‏:‏ المزر، فقال‏:‏ ‏(‏أمسكر هو‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يارسول الله، وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار‏)‏‏.‏

/ففي هذه الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أشربة من غير العنب كالمزر وغيره فأجابهم بكلمة جامعة، وقاعدة عامة‏:‏ ‏(‏إن كل مسكر حرام‏)‏، وهذا يبين أنه أراد كل شراب كان جنسه مسكرًا حرام سواء سكر منه أو لم يسكر، كما في خمر العنب‏.‏ ولو أراد بالمسكر القدح الأخير فقط لم يكن الشراب كله حرامًا، ولكان بين لهم، فيقول أشربوا منه ولا تسكروا؛ ولأنه سألهم عن المزر‏:‏ ‏(‏أمسكر هو‏؟‏‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ فلما سألهم‏:‏ ‏(‏أمسكر هو‏؟‏‏)‏ إنما أراد يسكر كثيره كما يقال‏:‏ الخبز يشبع، والماء يروي، وإنما يحصل الري والشبع بالكثير منه لا بالقليل‏.‏ كذلك المسكر إنما يحصل السكر بالكثير منه، فلما قالوا له‏:‏ هو مسكر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏، فبين أنه أراد بالمسكر كما يراد بالمشبع والمروي ونحوهما، ولم يرد آخر قدح، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ ومن تأوله على القدح الأخير لا يقول‏:‏ إنه خمر، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل كل مسكر حرامًا‏.‏

وفي السنن عن النعمان بن بشير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن العسل خمرًا‏)‏‏.‏ وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ /أما بعد، أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء‏:‏ من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر‏:‏ ما خامر العقل‏.‏ والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أن الخمر التي حرمها اسم لكل مسكر، سواء كان من العسل، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو لبن الخيل، أو غير ذلك‏.‏ وفي السنن عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ‏(‏كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن، وقد روي أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏ من حديث جابر، وابن عمر، وعمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، وغيرهم، وصححه الدارقطني وغيره، وهذا الذي عليه جماهير أئمة المسلمين من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمصار، والآثار‏.‏

ولكن بعض علماء المسلمين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في النبيذ، وأن الصحابة كانوا يشربون النبيذ، فظنوا أنه المسكر، وليس كذلك، بل النبيذ الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة هو أنهم كانوا ينبذون التمر أو الزبيب أو نحو ذلك في الماء حتى يحلو، فيشربه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ولا يشربه بعد ثلاث؛ لئلا تكون الشدة قد بدت فيه، وإذا اشتد قبل ذلك لم يشرب‏.‏ وقد /روي أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها‏)‏‏.‏ وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من أربعة أوجه، وهذا يتناول من شرب هذه الأشربة التي يسمونها الصرما وغير ذلك، والأمر في ذلك واضح؛ فإن خمر العنب قد أجمع المسلمون على تحريم قليلها وكثيرها، ولا فرق في الحس ولا العقل بين خمر العنب والتمر والزبيب والعسل؛ فإن هذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا يوقع العداوة والبغضاء، وهذا يوقع العداوة والبغضاء‏.‏

والله ـ سبحانه ـ قد أمر بالعدل والاعتبار، وهذا هو القياس الشرعي وهو التسوية بين المتماثلين، فلا يفرق الله ورسوله بين شراب مسكر وشراب مسكر فيبيح قليل هذا ولا يبيح قليل هذا، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما حرم القليل منهما، فإن القليل يدعو إلى الكثير، وأنه ـ سبحانه ـ أمر باجتناب الخمر؛ ولهذا يؤمر بإراقتها، ويحرم اقتناؤها، وحكم بنجاستها، وأمر بجلد شاربها، كل ذلك حسمًا لمادة الفساد، فكيف يبيح القليل من الأشربة المسكرة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن نبيذ التمر، والزبيب، والمزر، والسوينة التي تعمل من الجزر، والذي يعمل من العنب، يسمي النصوح‏:‏ هل هو حلال‏؟‏ وهل يجوز استعمال شيء من هذا، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، كل شراب مسكر فهو خمر، فهو حرام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه باتفاق الصحابة، كما ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي موسى‏:‏ أنه سئل عن شراب يصنع من الذرة يقال له‏:‏ المزر، وشراب يصنع من العسل يقال له‏:‏ البتع، وكان قد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏، وفي الصحيح عن ابن عمر عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏، وفي لفظ الصحيح‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏، وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏، وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ‏.‏

والله ـ عز وجل ـ حرم عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، لما فيه من الشدة المطربة التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء، وكل ما كانت فيه هذه الشدة المطربة فهو خمر من أي مادة كان‏:‏ من الحبوب، والثمار، وغير ذلك‏.‏ وسواء كان نيئًا أو مطبوخًا، /لكنه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه لم يبق مسكرًا، اللهم إلا أن يضاف إليه أفاويه أو نوع آخر‏.‏

والأصل في ذلك أن كل ما أسكر فهو حرام وهذا مذهب جماهير العلماء الأئمة، كما قال الشافعي وأحمد وغيرهم، وهذا المسكر يوجب الحد على شاربه، وهو نجس عند الأئمة‏.‏

وكذلك الحشيشة المسكرة يجب فيها الحد، وهي نجسة في أصح الوجوه، وقد قيل‏:‏ إنها طاهرة، وقيل‏:‏ يفرق بين يابسها ومائعها، والأول الصحيح؛ لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيئ، بخلاف ما لا يسكر بل يغيب العقل كالبنج، أو يسكر بعد الاستحالة كجوزة الطيب، فإن ذلك ليس بنجس‏.‏ ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها، فإنه لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها، بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه‏.‏ والشارع فرق في المحرمات بين ما تشتهيه النفوس وما لا تشتهيه النفوس كالدم والميتة اكتفي فيها بالزاجر الشرعي، فجعل العقوبة فيه التعزير‏.‏ وأما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعي زاجرًا طبيعيا وهو الحد، والحشيشة من هذا الباب‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن النصوح‏:‏ هل هو حلال، أم حرام‏؟‏ وهم يقولون‏:‏ إن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يعمله‏.‏ وصورته أن يأخذ ثلاثين رطلاً من ماء عنب، ويغلي حتى يبقي ثلثه، فهل هذه صورته‏؟‏ وقد نقل/ من فعل بعض ذلك أنه يسكر، وهو اليوم جهارًا في الأسكندرية ومصر، ونقول لهم‏:‏ هو حرام، فيقولون‏:‏ كان على زمن عمر، ولو كان حرامًا لنهي عنه‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، قد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والسنن والمسانيد أنه حرم كل مسكر، وجعله خمرًا، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سئل عن شراب العسل، يسمي المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر ـ منبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ إن الله حرم الخمر، وهي من خمسة أشياء‏:‏ من الحنطة، والشعير، والعنب، والتمر، والزبيب، والخمر ما خامر العقل‏.‏ و هو في السنن مسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروي عنه من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏، وقد صححه طائفة من الحفاظ‏.‏ والأحاديث في ذلك كثيرة‏.‏

فذهب أهل الحجاز، واليمن، ومصر، والشام، والبصرة، وفقهاء الحديث‏:‏ كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم‏:‏ أن كل ما أسكر/ كثيره فقليله حرام، وهو خمر عندهم من أي مادة كانت، من الحبوب، والثمار، وغيرها، سواء كان من العنب، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو لبن الخيل، أو غير ذلك، وسواء كان نيا أو مطبوخًا، وسواء ذهب ثلثاه، أو ثلثه، أو نصفه، أو غير ذلك، فمتى كان كثيره مسكرًا حرم قليله بلا نزاع بينهم‏.‏

ومع هذا فهم يقولون بما ثبت عن عمر‏:‏ فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ لما قدم الشام، وأراد أن يطبخ للمسلمين شرابًا لا يسكر كثيره طبخ العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وصار مثل الرب، فأدخل فيه أصبعه فوجده غليظًا، فقال‏:‏ كأنه الطلا‏.‏ يعني‏:‏ الطلا الذي يطلي به الإبل، فسموا ذلك الطلا، فهذا الذي أباحه عمر لم يكن يسكر، وذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ـ صاحب الخلال ـ أنه مباح بإجماع المسلمين، وهذا بناء على أنه لا يسكر ولم يقل أحد من الأئمة المذكورين إنه يباح مع كونه مسكرًا‏.‏

ولكن نشأت شبهة من جهة أن هذا المطبوخ قد يسكر؛ لأشياء إما لأن طبخه لم يكن تامًا، فإنهم ذكروا صفة طبخه أنه يغلي عليه أولاً حتى يذهب وسخه، ثم يغلي عليه بعد ذلك حتى يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه والوسخ فيه كان الذاهب منه أقل من الثلثين؛ لأن الوسخ يكون حينئذ من غير الذاهب‏.‏ وإما من جهة أنه قد يضاف إلى المطبوخ من الأفاويه وغيرها /ما يقويه ويشده حتى يصير مسكرًا، فيصير بذلك من باب الخليطين، وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن الخليطين لتقوية أحدهما صاحبه، كما نهي عن خليط التمر والزبيب، وعن الرطب والتمر، ونحو ذلك‏.‏

وللعلماء نزاع في الخليطين، إذا لم يسكر، كما تنازع العلماء في نبيذ الأوعية التي لا يشتد ما فيها بالغليان، وكما تنازعوا في العصير والنبيذ بعد ثلاث‏.‏ وأما إذا صار الخليطان من المسكر فإنه حرام باتفاق هؤلاء الأئمة‏.‏ فالذي أباحه عمر من المطبوخ كان صرفا، فإذا خلطه بما قواه وذهب ثلثاه لم يكن ذلك ما أباحه عمر‏.‏ وربما يكون لبعض البلاد طبيعة يسكر فيها ما ذهب ثلثاه فيحرم إذا أسكر، فإن مناط التحريم هو السكر باتفاق الأئمة‏.‏ ومن قال‏:‏ إن عمر أو غيره من الصحابة أباح مسكرًا فقد كذب عليهم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن قال‏:‏ إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه إذا لم يسكر في مذهب الإمام أبي حنيفة‏:‏ فهل هو صادق في هذه الصورة، أم كاذب في نقله‏؟‏ ومن استحل ذلك‏:‏ هل يكفر، أم لا‏؟‏ وذكر أن قليل المزر يجوز شربه فهل حكمه حكم خمر العنب في مذهب الإمام أبي حنيفة‏؟‏ أم له حكم آخر كما ادعاه هذا الرجل‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما الخمر التي هي عصيرالعنب الذي إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فيحرم قليلها وكثيرها باتفاق المسلمين، ومن نقل عن أبي حنيفة إباحة قليل ذلك فقد كذب، بل من استحل ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولو استحل شرب الخمر بنوع شبهة وقعت لبعض السلف أنه ظن أنها إنما تحرم على العامة، لا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فاتفق الصحابة ـ كعمر وعلى وغيرهما ـ على أن مستحل ذلك يستتاب، فإن أقر بالتحريم جلد، وإن أصر على استحلالها قتل‏.‏

بل وأبو حنيفة يحرم القليل والكثير من أشربة أخر، وإن لم يسمها خمرًا، كنبيذ التمر، والزبيب النيئ، فإنه يحرم عنده قليله وكثيره إذا كان مسكرًا، وكذلك المطبوخ من عصير العنب الذي لم يذهب ثلثاه فإنه يحرم عنده قليله إذا كان كثيره يسكر، فهذه الأنواع الأربعة تحرم عنده قليلها وكثيرها، وإن لم يسكر منها‏.‏

وإنما وقعت الشبهة في سائر المسكر كالمزر الذي يصنع من القمح ونحوه، فالذي عليه جماهير أئمة المسلمين كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أهل اليمن قالوا يارسول الله‏:‏ إن عندنا شرابًا يقال له البتع من العسل، وشرابًا من الذرة يقال له‏:‏ المزر وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر فهو حرام‏)‏، وفي الصحيحين /عن عائشة عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏، وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏، وفي السنن من غير وجه عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏، واستفاضت الأحاديث بذلك‏.‏

فإن الله لما حرم الخمر لم يكن لأهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم شراب يشربونه إلا من التمر، فكانت تلك خمرهم، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يشرب النبيذ والمراد به النبيذ الحلو، وهو أن يوضع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو ثم يشربه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن ينتبذوا في القرع والخشب والحجر والظرف المزفت؛ لأنهم إذا انتبذوا فيها دب السكر وهم لا يعلمون فيشرب الرجل مسكرًا، ونهاهم عن الخليطين من التمر والزبيب جميعًا؛ لأن أحدهما يقوي الآخر، ونهاهم عن شرب النبيذ بعد ثلاث؛ لأنه قد يصير فيه السكر والإنسان لا يدري‏.‏ كل ذلك مبالغة منه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فمن اعتقد من العلماء أن النبيذ الذي أرخص فيه يكون مسكرًا ـ يعني من نبيذ العسل، والقمح، ونحو ذلك ـ فقال‏:‏ يباح أن يتناول منه ما لم يسكر، فقد أخطأ‏.‏

وأما جماهير العلماء فعرفوا أن الذي أباحه هو الذي لا يسكر، وهذا القول هو الصحيح في النص، والقياس‏.‏ أما النص‏:‏ فالأحاديث الكثيرة فيه‏.‏ وأما القياس‏:‏ فلأن جميع الأشربة المسكرة متساوية في كونها تسكر، /والمفسدة الموجودة في هذا موجودة في هذا، والله صلىـ تعالى ـ لا يفرق بين المتماثلين بل التسوية بين هذا وهذا من العدل والقياس الجلي، فتبين أن كل مسكر خمر حرام، والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كفر، بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول، والحشيشة كالعذرة‏.‏

وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية‏:‏

 فصل

وأما الحشيشة الملعونة المسكرة، فهي بمنزلة غيرها من المسكرات والمسكر منها حرام باتفاق العلماء، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرًا، كالبنج، فإن المسكر يجب فيه الحد، وغير المسكر يجب فيه التعزير‏.‏

وأما قليل الحشيشة المسكرة، فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏، يتناول ما يسكر‏.‏ ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً، أو مشروبًا، أو جامدًا، أو مائعًا‏.‏ فلو اصطبغ كالخمر كان حرامًا، ولو أماع /الحشيشة وشربها كان حرامًا‏.‏ ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه، أو لم تكن‏.‏

فلما قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏، تناول ذلك ما كان بالمدينة من خمر التمر وغيرها، وكان يتناول ما كان بأرض اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك، ودخل في ذلك ما حدث بعده من خمر لبن الخيل الذي يتخذه الترك ونحوهم‏.‏ فلم يفرق أحد من العلماء بين المسكر من لبن الخيل، والمسكر من الحنطة والشعير، وإن كان أحدهما موجودًا في زمنه كان يعرفه، والآخر لم يكن يعرفه؛ إذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمرًا من لبن الخيل‏.‏

وهذه الحشيشة فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكسخان، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولاً تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنونًا بسبب أكلها‏.‏

/ومن الناس من يقول‏:‏ إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربًا كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر، فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ إنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر‏.‏

وتنازعوا في نجاستها، على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره، فقيل‏:‏ هي نجسة‏.‏ وقيل ليست بنجسة‏.‏ وقيل‏:‏ رطبها نجس كالخمر، ويابسها ليس بنجس‏.‏ والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع، كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها، فمن سكر من شراب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاه حتى يعلم ما يقول، ولابد أن يغسل فمه، ويديه، وثيابه في هذا وهذا، والصلاة فرض عينية، لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يومًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏، قيل‏:‏ وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عصارة أهل النار أو عرق أهل النار‏)‏‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إن هذه ما فيها آية ولا حديث، فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كل ما /دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص، فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، فاسم الناس والعالمين يدخل فيه العرب وغير العرب من الفرس والروم، والهند والبربر، فلو قال قائل‏:‏ إن محمدًا ما أرسل إلى الترك والهند والبربر؛ لأن الله لم يذكرهم في القرآن كان جاهلاً، كما لو قال‏:‏ إن الله لم يرسله إلى بني تميم، وبني أسد وغطفان، وغير ذلك من قبائل العرب، فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة، وكما لو قال‏:‏ إن الله لم يرسله إلى أبي جهل وعتبة، وشيبة، وغيره من قريش؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة في القرآن‏.‏

وكذلك لما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏، دخل في الميسر الذي لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وكل الميسر حرام باتفاق المسلمين، وإن لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض فإنه حرام بإجماع المسلمين، وهو الميسر الذي حرمه الله، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والنرد ـ أيضًا ـ من الميسر الذي حرمه الله، وليس في القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم /خاص؛ بل لفظ الميسر يعمها وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، تناول كل أيمان المسلمين التي كانوا يحلفون بها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والتي صاروا يحلفون بها بعد، فلو حلف بالفارسية والتركية والهندية والبربرية باسم الله ـ تعالى ـ بتلك اللغة انعقدت يمينه، ووجبت عليه الكفارة إذا حنث باتفاق العلماء، مع أن اليمين بهذه اللغات لم تكن من أيمان المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف من حلف بالمخلوقات ـ كالحلف بالكعبة والملائكة، والمشايخ، والملوك، وغير ذلك ـ فإن هذه ليست من أيمان المسلمين، بل هي شرك، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏)‏‏.‏

وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، يعم كل ما يسمي صعيدًا، ويعم كل ماء‏:‏ سواء كان من المياه الموجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو مما حدث بعده، فلو استخرج قوم عيونًا وكان فيها ماء متغير اللون والريح والطعم وأصل الخلقة، وجب الاغتسال به بلا نزاع نعرفه بين /العلماء، وإن لم تكن تلك المياه معروفة عند المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، فدخل فيه كل مشرك من العرب وغير العرب، كمشركي الترك، والهند، والبربر، وإن لم يكن هؤلاء ممن قتلوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏، يدخل فيه جميع أهل الكتاب، وإن لم يكونوا ممن قتلوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين قتلوا على زمانه كانوا من نصاري العرب والروم، وقاتل اليهود قبل نزول هذه الآية، وقد دخل فيها النصاري من القبط، والحبشة، والجركس، والأل، واللاص، والكرج، وغيرهم ـ فهذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص‏.‏

ولو قدر بأن اللفظ لم يتناوله وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار والقياس، كما دخل اليهود والنصاري والفرس في عموم الآية ودخلت جميع المسكرات في معنى خمر العنب، وأنه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط /والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والميزان‏:‏ العدل‏.‏ والقياس الصحيح هو من العدل؛ لأنه لا يفرق بين المتماثلين، بل سوي بينهما، فاستوت السيئات في المعنى الموجب للتحريم، لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر، بل من العدل أن يسوي بينهما، ولو لم يسو بينهما كان تناقضًا، وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض‏.‏ ولو أن الطبيب حمي المريض عن شيء لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب‏.‏ والشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان، ولابد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به بينه وبين هذا، حتى يكون فيه معنى خاص بما حرمه دون ما أحله‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأما إن اعتقد ذلك قربة، وقال‏:‏ هي لقيمة الذِّكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في/ الطريق، فهو أعظم وأكبر، فإن هذا من جنس دين النصاري الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، ومن كان يستحل ذلك جاهلاً وقد سمع بعض الفقهاء يقول‏:‏

حرموها من غير عقل ونقل ** وحــرام تحـــريم غــير الحــرام

فإنه ما يعرف الله ورسوله، وأنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع‏.‏ وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك، فإنه يكون كافرًا مرتدًا، كما تقدم‏.‏ وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب العقل حرام بإجماع المسلمين‏.‏ وأما تعاطي البنج الذي لم يسكر، ولم يغيب العقل، ففيه التعزير‏.‏

وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجار، لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار‏.‏

/وعلى تناول القليل منها والكثير حد الشرب، ثمانون سوطًا، أو أربعون‏.‏ إذا كان مسلمًا يعتقد تحريم المسكر، ويغيب العقل‏.‏

وتنازع الفقهاء في نجاستها، على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنها ليست نجسة‏.‏ والثاني‏:‏ أن مائعها نجس، وأن جامدها طاهر‏.‏ والثالث ـ وهو الصحيح ـ‏:‏ أنها نجسة كالخمر، فهذه تشبه العذرة، وذلك يشبه البول، وكلاهما من الخبائث التي حرمها الله ورسوله‏.‏ ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر، وشر منه من بعض الوجوه، ويهجر، ويعاقب على ذلك، كما يعاقب هذا، للوعيد الوارد في الخمر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، وآكل ثمنها‏)‏، ومثل قوله‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب، تاب الله عليه، وإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏، وهي عصارة أهل النار، وقد ثبت عنه في الصحيح ـ أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏، وسئل عن هذه الأشربة وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عما يجب على آكل الحشيشة، ومن ادعي أن أكلها جائز حلال مباح‏.‏

فأجاب‏:‏

أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلاً أو كثيرًا، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا، لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين‏.‏ وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها‏.‏

وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال /قتلوا‏.‏ وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد الحد ثمانين سوطًا، أو أربعين‏.‏ هذا هو الصواب‏.‏ وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد؛ لأنه ظن أنها مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطي العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين‏:‏ إن كان مسكرًا ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكرًا ففيه التعزير بما دون ذلك، ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل‏.‏

والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب، فإن آكليها ينشون بها، ويكثرون تناولها، بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينشي، ولا يشتهي‏.‏ وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، ومالا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير‏.‏ والحشيشة مما يشتهيها آكلوها، ويمتنعون عن تركها، ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريبًا من نحو ظهور التتار، فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عمن يأخذ شيئا من العنب، ويضيف إليه أصنافًا من العطر ثم يغليه إلى أن ينقص الثلث، ويشرب منه لأجل الدواء، ومتى أكثر شربه أسكر‏.‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، متى كان كثيره يسكر فهو حرام، وهو خمر، ويحد صاحبه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه جماهير السلف والخلف، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏، وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏، وفي الصحيح عن أبي موسى، قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ أفتنا في شراب كنا نصنعه في اليمن ـ البتع ـ وهو من نبيذ العسل، ينبذ حتى يشتد، فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏، وفي صحيح مسلم عن جابر أن رجلاً من حبشان اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يصنعونه بأرضهم يقال له‏:‏ المزر‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أيسكر‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار‏)‏، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيرة فقليله حرام‏)‏، وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ‏.‏ والأحاديث في ذلك متعددة‏.‏

وإذا طبخ العصير حتى يذهب ثلثه أو نصفه وهو يسكر فهو حرام عند الأئمة الأربعة، بل هو خمر عند مالك والشافعي وأحمد‏.‏ وأما إن ذهب ثلثاه وبقي /ثلثه، فهذا لا يسكر في العادة، إلا إذا انضم إليه ما يقويه، أو لسبب آخر‏.‏ فمتى أسكر فهو حرام بإجماع المسلمين وهو الطلاء الذي أباحه عمر بن الخطاب للمسلمين‏.‏ وأما إن أسكر بعدما طبخ وذهب ثلثاه، فهو حرام ـ أيضًا ـ عند مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن المداومة على شرب الخمر، وترك الصلاة، وما حكمه في الإصرار على ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما شارب الخمر، فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت ذلك عليه، وحده أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة‏.‏ فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة، وإن اقتصر على الأربعين ففي الإجزاء نزاع مشهور‏.‏ فمذهب أبي حنفية ومالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه يجب الثمانون‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، فإن احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل، وقد كان عمر بن الخطاب يعزر بأكثر من ذلك، كما روي عنه أنه كان ينفي الشارب عن بلده، ويمثل به بحلق رأسه‏.‏

/وقد روي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها الثالثة، أو الرابعة، فاقتلوه‏)‏‏.‏ فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة‏.‏ وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخًا، وهو المشهور من مذاهب الأئمة‏.‏ وطائفة يقولون‏:‏ إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم‏)‏‏.‏ والحق ما تقدم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً كان يدعي حمارًا، وهو كان يشرب الخمر، فكان كلما شرب جلده النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، فقال‏:‏ لعنه الله، ما أكثر ما يؤتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله‏)‏، وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه‏.‏

وأما تارك الصلاة فإنه يستحق العقوبة باتفاق الأئمة، وأكثرهم ـ كمالك والشافعي وأحمد ـ يقولون‏:‏ إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كغيره من أصحاب الكبائر‏؟‏ على قولين‏.‏ فإذا لم تمكن إقامة الحد على مثل هذا فإنه يعمل معه الممكن، فيهجر، ويوبخ حتى يفعل المفروض، ويترك المحظور، ولا يكون ممن قال الله فيه‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، مع أن إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فكيف بتاركها‏؟‏ ‏!‏‏!‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل عنده حجرة خلفها فلوه، فهل يجوز الشرب من لبنها، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز الشرب من لبنها؛ إذا لم يصر مسكرًا‏.‏

 وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن رجل اعتاد أن يتناول كل ليلة قبل العصر شيئا من المعاجين مدة سنين‏.‏ فسئل عن ذلك، فقال‏:‏ أري فيه أشياء من المنافع‏:‏ فهل يباح ذلك له أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان ذلك يغيب العقل لم يجز له أكله، فإن كل ما يغيب العقل يحرم باتفاق المسلمين‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه‏)‏‏:‏ هل لهذا الحديث أصل‏؟‏ ومن رواه‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم‏.‏ له أصل، وهو مروي من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث، لكن أكثر العلماء يقولون‏:‏ هو منسوخ‏.‏ وتنازعوا في ناسخه، على عدة أقاويل‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل حكمه باق‏.‏ وقيل‏:‏ بل الوجوب منسوخ، والجواز باق‏.‏ وقد رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما، ولا أعلم أحدًا قدح فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عمن هش الذرة فأخذ يغلي في قدره، ثم ينزله ويعمل عليه قمحًا، ويخليه إلى بكرة، ويصفيه، فيكون مما لا يسكر في ذلك اليوم، ثم يخليه يومين أو ثلاثة بعد ذلك فيبقي يسكر‏:‏ هل يجوز أن يشرب منه في أول يوم أم لا‏؟‏

/فأجاب‏:‏

يجوز شربه ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام‏.‏ فأما إذا أسكر فإنه حرام بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أسكر بعد الثلاثة، أو قبل الثلاثة، ومتى أسكر حرم، فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن الخمر إذا غلي على النار ونقص الثلث‏:‏ هل يجوز استعماله، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا صار مسكرًا فإنه حرام تجب إراقته، ولا يحل بالطبخ، وأما إذا طبخ قبل أن يصير مسكرًا حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ولم يسكر فإنه حلال عند جماهير المسلمين‏.‏ وأما إن طبخ قبل أن يصير مسكرًا حتى ذهب ثلثه أو نصفه، فإن كان مسكرًا فإنه حرام في مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ وإن لم يكن مسكرًا فإنه يستعمل ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن جماعة من المسلمين رجال كهول وشبان، وهم حجاج مواظبون على أداء ما افترض عليهم من صوم، وصلاة، وعبادة‏.‏ وفيهم كبير القدر معروفون بالثقة والأمانة بين المسلمين في أقوالهم وأفعالهم، ليس عليهم شيء من ظواهر السوء والفسوق، وقد اجتمعت عقولهم وأذهانهم ورأيهم على أكل الغبيراء، وكان قولهم واعتقادهم فيها أنها معصية وسيئة، غير أنهم مع ذلك يقولون في اعتقادهم بدليل كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، وذكروا ـ أيضًا ـ أنها حرام، غير أن لهم وردًا بالليل وتعبدات، ويزعمون أنها إذا حصلت نشوتها برؤوسهم تأمرهم بتلك العبادة، ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة، ونسبوا أنه ليس لها ضرر لأحد من خلق الله ـ تعالى ـ كالزنا وشرب الخمر والسرقة، وأنه لا يجب على من أكلها حد من الحدول، إلا أنها تتعلق بمخالفة أمر من أمور الله ـ سبحانه وتعالى ـ والله يغفر ما بين العبد وربه‏.‏ واجتمع بهم رجل صادق القول، وذكر عنهم ذلك، ووافقهم على أكلها بحكمهم عليه، وحديثهم له، واعترف على نفسه بذلك‏:‏ فهل يجب على آكلها حد شارب الخمر أم لا‏؟‏ أفتونا‏.‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر‏.‏ وهؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله، وكفي برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم، وأنه معصية لله ولرسوله، ثم يقول‏:‏ إنه تطيب له العبادة، وتصلح له حاله‏!‏‏!‏‏!‏ ويح هذا القائل‏!‏ أيظن أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم على الخلق ما ينفعهم، ويصلح لهم‏؟‏ ‏!‏ نعم، قد يكون في الشيء منفعة وفية مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة، وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل‏:‏ خذ منى هذا الدرهم وأعطني دينارًا، فجهله يقول له‏:‏ هو يعطيك درهمًا فخذه، والعقل يقول‏:‏ إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار، وهذا ضرر لا منفعة له، بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلابد أن يكون ضرره أكثر‏.‏

فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون‏:‏ من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن هي تحلل الرطوبات، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس‏.‏ وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه /فيها، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المآل، ولا يبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش عقله حتى يسخو بماله، ويتشجع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل‏.‏ ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال، فيجود بجهله، لا عن عقل فيه‏.‏

وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل دين النصاري، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف، فإن دينه باطل، والباطل خفيف؛ ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق بما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضًا عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه، وإنما ذلك لذة ساعة، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلاً، وذنوبه محيطة به، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه‏.‏

وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة، وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثًا، وإما مأبونا، وإما كلاهما، وتفسد الأمزجة /حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة السفنج، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها، فإنه لابد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفي بالرجل شرًا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر‏.‏ ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح شهوته، ما لا يورثه الخمر‏.‏ ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر؛ لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد، إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة، صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم لأنها تضر أصحابها، وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها، إذ الحاسد يضره حال المحسود، ولم يحرم الله اكتساب المعإلى لدفع تضرر الحاسد‏.‏ هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏، وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها، مع أن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها‏.‏ والله أعلم‏.‏